2024 March 29 - 19 رمضان 1445
التصوف السليم جوهر الإسلام ولبّه وابن تيمية من أبرز المنافحين عنه والداعين إليه
رقم المطلب: ٢٣٧ تاریخ النشر: ١٠ رجب ١٤٣٧ - ١٣:٢٤ عدد المشاهدة: 3081
فتنة الوهابیة » عام
جدید
التصوف السليم جوهر الإسلام ولبّه وابن تيمية من أبرز المنافحين عنه والداعين إليه

بقطع النظر عن كلمة "التصوف" وما دار من جدل حول معناها واصلها، وحول مدى مشروعية التعبير بها عن مضمون لم يظهر لكثير من الناس مدى علاقته بالإسلام، سواء في مبادئه الأساسية أو جوانبه الكمالية والتحسينية فإن من الأهمية بمكان أن نتبين المعنى المراد بهذه الكلمة، ثم نتبين العلاقة بينه "أي بين التصوف"، وبين حقيقة الإسلام.

ذلك لأننا إن أدركنا هذه العلاقة من خلال موضوعية علمية متحررة، كان بوسعنا، بل ترتب علينا أن نجعل من هذه العلاقة ميزاناً يكشف عن مدى شرعية هذا المضمون أو عدم مشروعيته، ما دمنا نتخذ بصدق من الإسلام محور التزاماتنا الفكرية والسلوكية على السواء.

ولعل أجمع ما يكشف عن المعنى المراد بكلمة التصوف، ومن ثم يوضح العلاقة بينه وبين حقيقة الإسلام، يتمثل في عرض الحقيقة التالية:

 

إن قيمة التزام المسلم بالإسلام، تظهر على صعيدين اثنين، قد يتضافران و يجتمعان، وقد ينفك الواحد منهما عن الآخر:

أما الصعيد الأول: فهو الساحة الدنيوية التي يتجلى فيها تعامل الناس بعضهم مع بعض، ومن المعروف أن الإنسان يجب أن يعامَلَ على أنه مسلم، من كل

الجوانب، بمجرد أن يتوافر أركان الإسلام في ظاهر أقواله وأفعاله، بأن ينطق بشهادة الإسلام، ويذعن لأركانه العملية، ولا يبدو منه في الظاهر ما يدل على إنكاره وتأبيه لشيء منها، كما توصف طاعاته وعباداته جميعاً بالصحة والقبول، ما دامت هي في الظاهر كذلك، أي فليس لقاضٍ أن يتهم مسلماً بخلاف ما قد ظهر منه في السلوك وصحة الطاعات والعقود. دليل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم بسنده عن أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: (إنما أن بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضهم أن يكون له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها ).

الصعيد الثاني: وأقول قبل بيانه إننا يجب أن نعلم أن هذا الحكم القضائي، في نطاق التعامل في دار الدنيا، ليس بالضرورة المقياس الدال على الحكم الأخروي الذي سيقضي به الله عز وجل بين عباده في الدار الآخرة، بل إن لذلك القضاء مقياساً آخر.

فالصعيد الثاني إذن إنما هو صفاء القصد وإخلاص القلب وموافقة الظاهر الذي كان يراه الناس للباطن الخفي الذي يطلع عليه الله عز وجل.

فهذا هو أساس قضائه عز وجل في حق عباده يوم القيامة، ودليل ذلك قول الله عز وجلَّ: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ..)، وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اتفق عليه الشيخان (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى..)، والأدلة على هذه الحقيقة في كتاب الله وسنة رسوله كثيرة جداً.

ويعبر علماء الشريعة الإسلامية عن الأحكام التي تتم على الصعيد الأول، بالأحكام القضائية، وعن التي يقضي بها الله عز وجل بين عباده أو في حقهم يوم القيامة، بالأحكام الدينية، أو الأحكام ديانة، ويعبر بعضهم عن الأولى بالشريعة، أي المتبعة في دار الدنيا، وعن الثانية بالحقيقة، أي التي ستطبق يوم القيامة.. ولا أهمية لاختلاف التعابير، ولا مشاحة في الاصطلاح، إن كان مضمون هذه التعابير والمصطلحات صحيحاً، فضلاً عن أن يكون محل اتفاق عند سائر علماء الشريعة الإسلامية.

غير أن المشكلة التي كان لا بدّ لها أن تؤرق فكر المسلم الصادق في إسلامه والراغب حقاً في النجاة يوم القيامة هي مشكلة التوفيق بين الظاهر من أحكام السلوك الدينية، والباطن من الإخلاص لوجه الله فيها، والصدق في الالتزام بأوامره والانتهاء عن نواهيه ابتغاء وجهه وحده، وتطهير القلب من الغوائل التي لا يطلع عليها إلا الله ولا يحاسب عليها غيره، والتي تصد صاحبها عن بلوغ درجة الإخلاص في الأعمال والصفاء في النية...!

ذلك؛ لأن من السهل على الإنسان أن يتحلى، في ظاهره، بكثير من أوامر الله و أحكامه، دون أي انضباط حقيقي وجوهري بها، ودون أي إخلاص قلبي لها، ابتغاء الحصول على الحقوق والامتيازات الإسلامية في حياته الدنيوية.. ولا

يكلفه ذلك أكثر من مصائغه للناس، وستر لبواطن الزغل والانحراف بظاهر من الاستقام والالتزام.

أما الأمر العسير حقاً، فهو السعي إلى تطويع الباطن لما قد تحلى به الظاهر، بحيث يصبح ظاهر المسلم عنواناً على باطنه، بحيث إن تلبس ظاهره بأعمال الصلاة أو النسك، كان قلبه منصرفاً بالخشية والخضوع إلى مراقبة الله وذكره، وإن عامل الناس بمقتضى الأحكام الشرعية فيما يبديه لهم من ظاهر معاملاته، كان في قلبه من خشية الله وتعظيمه ما يجعله يفيض إخلاصاً للناس فيما يظهر لهم، وما يضمن تحقيق كامل التنسيق والتفاعل بين ما يٌريهم من ظاهر أعماله وما يعامل الله به من باطن مشاعره وقصده.

أقول: إن تحقق هذا التناسق، يقتضي بالضرورة أن يتجرد القلب من آفات الكبر والأنانية والضغائن، وأن يتجرد عن سلطان الشهوات والأهواء الجانحة، ويتحرر من محبة الدنيا وزخرفها.

أجل؛ إن من العسير جداً تطويع القلب لهذا الذي لا يعسر أن تخضع له الجوارح والظواهر والصور، ذلك لأن إخضاع الظواهر يمكن أن يتم عن طريق التمرين والتمثيل، وبدافع من الطمع في الحصول على حظوظ دنيوية عاجلة، و لكن ما الذي يخضع المشاعر والقلب _بعيداً عن رؤية الناس ورقابتهم_ لما خضعت له تلك الظواهر والأشكال؟ بل ما الذي يمكن أن يحرر القلب عن سلطات الشهوات والأهواء، وأن يجرده عن مشاعر الأنانية والأحقاد، حتى يمكن توجيهه بعد ذلك إلى مراقبة الله والمخافة من سطوته وعقابه؟

لم يكن غريباً أن تشغل هذه المشكلة بال المسلمين الراغبين في أن يكون إسلامهم مفيداً لهم في حكم القضاء الدنيوي، وأن يكون منقذاً لهم أيضاً في قرار الديانة الأخروية العائد إلى حكم الله عز وجل، أجل، لم يكن غريباً أن تشغل هذه المشكلة بال المسلمين الصادقين في إسلامهم، منذر صدر الإسلام إلى يومنا هذا. إنما الغرابة كل الغرابة هي أن يكون المسلم صادقاً في إسلامه، ثم لا تؤرقه هذه المشكلة ولا تخطر منه على بال.

و نحن لا نشك في أن القرآن يهدي إلى السبيل الأمثل لحلّ هذه المشكلة، وربط كل من الظاهر والباطن برباط السعي المخلص الصادق إلى مرضاة الله عز وجل، غير أن القرآن أجمَل بيان الحل في كلمة قدسية واحدة كرر الأمر بها وشدّد في التنبيه إلى ضرورتها، هي: "التزكية" ثم نبه إلى طريق واحد مرسوم لها، ألا وهو الذكر، ذكر الله عز وجل في كل حال، والابتعاد عن مطارح الغفلة وأسبابها. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فزاد الأمر بياناً إذ ربط بين الإيمان والحب، ونبه إلى التلازم المستمر بينهما، وذلك في مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كنّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان...)، فذكر منهن (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، والحديث متفق عليه فكيف تتم هذه التزكية، وهي فيما أجمع عليه العلماء، تطهير النفس من رعوناتها، وأهوائها الجانحة؟ وكيف السبيل إلى غرس محبة الله في القلب؟ ثم كيف السبيل إلى التخلص من الغفلات، وإيقاظ القلب والمشاعر إلى ذكر الله ومراقبته؟

ها هنا تكمن العقبة الكؤود، وعندها يتجلى معنى الجهاد الأكبر الذي ابتلى الله به الانسان، وجعله مجلى حقيقة العبودية لله عز وجل.

وعند هذه المعضلة يبرز دور التصوف الذي لم ينب عنه إلى اليوم سواه. وما ينبغي أن ننسى أننا إنما نتحدث عن مضمون هذه الكلمة، كما هو في ذهن جمهور علماء المسلمين لا سيما الصدر الأول، ولسنا نقف بأي اهتمام عند هذه اللفظة بحدّ ذاتها، كما هو دأب كثير من المستشرقين ومقلديهم.

وإذا أسقطنا هذه الكلمة المستحدثة أو المبتدعة عن الاعتبار، كان بوسعنا أن نتعرف على جوهر التصوف ومعناه، فهو ليس أكثر من سلوك السبل التربوية الممكنة، على درب هذا الجهاد الأكبر الذي ابتلى اله عبه عباده؛ وكان بوسعنا أيضاً أن نبصر بوضوح اتجاه همم المسلمين الصادقين في إسلامهم منذ عصر النبوة، إلى خوض غمار هذا الجهاد، جهاد

النفس من أجل تزكيتها من الرعونات والأوضار، ثم ربط العاطفة القلبية بحقائق الدين وأحكامه، عن طريق ربطها بمحبة الله ورسوله.

 

سبيل هذا الجهاد منذ عصر الصحابة فما بعد:

غير أن سبيل هذا الجهاد أمام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كان أقل وعورة بالنسبة إلى من جاء بعدهم، وذلك لأسباب، من أهمها رؤيتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وجلوسهم إليه وسماعهم لكلامه وعظاته، فقد كان لذلك أثر كبير في غرس محبته في قلوبهم، وتأثير ذلك على نفوسهم، وهو الأمر الذي يستوجب بطبيعة الحال محبة كل ما يدعوهم إليه رسول الله، وإيثاره على كل ما قد يعارضه من نوازع الشهوات والأهواء. فمن ثم تجلت في حياتهم ظاهرة الطفرة التي لم نجدها ظهرت فيمن بعدهم. وأعني بها سرعة تحولهم عن أضاعهم الجاهلية التي كانت متحكمة بهم راسخة في حياتهم، إلى أتم معاني الالتزام بعزائم الدين وضوابطه وأحكامه.

ومن هذه الأسباب، بساطة الحياة التي كانت تحيط بهم، فقد كانت مغرياتها محدودة، ومحرماتها معدودة، ومن ثم فقد كان سبيل التسامي فوقها، والتحرر من غوائلها أقصر وأيسر.

ولكن لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنجز الله وعده للمسلمين الذين أنجزوا وعدهم له، ففتح لهم البلاد، ووسع من آفاق الدنيا التي خضعت لهم، واندلقت إليهم الدنيا _بزينتها وزخرفها_ من كل صوب، كان لا بدّ أن يتضاعف أمامهم الجهد في سبيل تزكية النفس ومجاهدتها، ذلك لأن القيود أصبحت أكثر وأثقل.

ولم يكن في مناهجهم وأصولهم التربوية تلك، ما يتعارض مع كتاب الله وسنة رسوله، بل كان كله مأخوذاً منه مخرجاً عليه، وكانوا في صنيعهم الذي فعلوه لا يختلفون عن أولئك الذين استشعروا الحاجة فاستخرجوا قواعد الأصول في فهم النصوص من اجتهادات الصحابة، وعن أولئك الذين استشعروا الحاجة فاستخرجوا قواعد البلاغة العربية من كلام الله عز وجل.

ولا نزال نذكر في مقدمة من أقدموا على هذا الصنيع جلالة وسبقاً، الحارث

المحاسبي"243ت" ،وأحمد بن أبي الحواري"246ت" ،والجنيد البغدادي "298ت".

وإنما درج هؤلاء فيما كتبوا ونظموا على منوال من سبقهم إلى ذلك سلوكاً وعملاً، من جلة التابعين ومن بعدهم كالحسن البصري، وسفيان الثوري، وعطاء بن أبي رباح. وما خرجوا في شيء من أصولهم التربوية على ميزان الكتاب والسنة قط، ولكن إما أن يكون دخوله في هذا الميزان صريحاً ومباشراً، وإما أن يكون اجتهاداً واستنباطاً.

ونذكرِّ بما اتفق عليه العلماء، من أن كل ما يتوقف عليه الواجب يصبح واجباً، وكل ما يتوقف عليه المندوب يكون مندوباً، ما لم يكن هذا المتوقف عليه منهياً عنه، نهياً لا يقل في أهميته والجزم به من ترك الواجب المنصوص عليه.

إذن، فمهما كانت السبل التربوية غير منصوص عليها في قرآن أو سنة، نصاً مباشراً، ولكنها تعين في تزكية النفس وتصعيد العاطفة والوجدان، فإنها تأخذ حكم الغاية التي تتحقق من ورائها، وهذه الغاية داخلة كما يصرح الإمام ابن تيمية رحمه الله في أصول الإيمان وقواعد الدين. فالسعي إلى التحقق بها واجب على جميع الخلق باتفاق الأئمة.

وقد علمنا أن هذه الأصول إنما تدخل كلها في نطاق الأعمال الباطنة، كمحبة الله، والخوف منه، والرضا عنه، والإخلاص له، والتوكل عليه، والزهد في كل ما يحجب أو يبعد عنه، وإنما مدار ذلك كله على العاطفة والوجدان.

فلما أخذت هؤلاء الربانيون أنفسهم بالسبل التربوية المتنوعة للتحقق بهذه الصفات، وأرشدوا إلى ذلك عامة الناس وخاصتهم، وسلك الكثير منهم هذا السبيل _نشأ عن تفارقهم في السير والسبق إلى ذلك_، ومدى الاستمرار عليه ما سمي بالمقامات، كالأحوال، والفناء، والبقاء، وأطلقوا على من أخذوا أنفسهم بهذه السبل التربوية اسم: السالكين.

غير أن هذا السلوك، قد أدركه هو الآخر، ما أدرك أنواع العلوم والمعارف الإسلامية الأخرى من أدواء البدع والزغل والانحراف عن خط الاستقامة والقصد، فامتزج بالحق الذي ندب إليه العارفون والربانيون، كثير من الباطل الذي روج له الجاهلون آناً، والفسقة والزنادقة آناً آخر.

ولسنا هنا بصدد الكشف عن تفاصيل هذه البدع والانحرافات التي تسللت إليه، فإن لذلك مجالاً آخر... ولكن المهم أن نعلم أن هذا السلوك التربوي يمثل لباب الدين، وأن المسلمين الصادقين في إسلامهم ما زالوا يتلمسون السبيل الشرعي إليه منذ عصر الصحابة إلى يومنا هذا، بقطع النظر عن مظاهر الانحراف التي قد تتعرض به.

ابن تيمية ظٌلِمَ فيما نسب إليه بالقدر الذي ظٌلِمَ به التصوف ذاته

إذا كان هذا الذي ذكرناه واضحاً وصحيحاً، فما الذي يٌنْكَرٌ من هذا السلوك

التربوي، في ميزان الشريعة الإسلامية ونصوص الكتاب والسنة؟



Share
* الاسم:
* البرید الکترونی:
* نص الرأی :
* رقم السری:
  

أحدث العناوین