حوارات الدكتور السيد محمد الحسيني القزويني

مع قناة المستقلة الوهابية


التاريخ الإسلامي

 (بين الواقعية والموروثات)

لقد اتسم تاريخ المسلمين بجملة من الأمور المهمة التي ميزته عن غيره، أبرزها ارتباطه بالدين والشريعة وسيرة نبي الإسلام صلي الله عليه وآله، إذ لطالما عكف المؤرخ غير الإسلامي على تسجيل أمجاد ملوكه وحضارة قومه وبلده بينما نجد المؤرخ الإسلامي قد جعل نبي الإسلام صلي الله عليه وآله وتحركاته محورا لتسجيله.

وكذلك امتاز بوفرة المادة التاريخية الإسلامية؛ إذ لا نجد واقعة مهما كانت صغيرة إلا وسطرت من مختلف جوانبها، مع ابتعاده عن جانب الأسطورة والخرافة بالمقدار الذي ابتليت بها تواريخ بقية الأمم والحضارات.

غير إن هذا لا يعني نموذجية التاريخ الإسلامي، وأن القضايا والحوادث قد وصلت إلينا كاملة وبواقعها الحقيقي، وإنما معرفة ذلك منوط بالدراسة المعمقة والوقوف على الكيفية التي وصلت من خلالها تلك الحوادث والوقائع إلينا والعوامل التي ساهمت وأثرت في نقلها. وهذا موكول إلى علم التاريخ فهو الذي يتكفل بذلك.

ولعلنا من خلال التأمل فيما بين أيدينا من مدونات تاريخية، نصل إلى قناعة تامة بوجود مواطن من الخلل والنقص فيها، ولعل الباحث يلمس بوضوح أن هناك حلقات مفقودة من التاريخ الإسلامي وفراغات واضحة بين حقائقه من خلال تسلسلها الزمني.

فهناك وقائع اعتراها النقص ولم تكتمل فصولها، كحروب النبي صلي الله عليه وآله على سبيل المثال، فعند التدقيق فيها تبقى في نفس الباحث كثير من التساؤلات التي لا يعثر على إجابات لها في كتب التاريخ...

وكذا بطولات أمير المؤمنينعليه السلام في ميادين الحرب وغيرها كتعبده للحق وطهارة الوجدان وصفاء البصيرة وحرارة الإيمان ونصرة المظلوم والمحروم، فقد تكتم التاريخ بشكل واضح على تفاصيلها الجزئية.

و مما اعتراه النقص أو قُلْ التشويه التاريخي، حادثة يوم الغدير، وهو من الأحداث المهمة في الإسلام التي شهدت عناية خاصة من الرسول صلي الله عليه وآله، فتحمل عناء الموقف وجابه كل التهديدات التي كانت تعترضه آنذاك وخطب في ذلك الجمع الغفير خطبته الأخيرة بعد أن أوقفهم صلي الله عليه وآله على دنو رحيله إلى الباري تعالى وأخذ منهم العهد بتمام رسالته وكمالها وأمور أخرى تضمن لهم ديمومة الإسلام ونهجه القويم وتضمن لهم عدم الضلال والانجراف في متاهات الهوى، وعين لهم القادة من بعده وأتم الحجة على الجمع...

وكذلك واقعة السقيفة، التي كانت من اخطر حوادث الإسلام؛ بما لعبته من دور في تعيين مسير الإسلام بعد رحيل الرسول صلي الله عليه وآله، فقد تركت هي الأخرى تساؤلات كثيرة لازالت قائمة إلى الآن ابتداءً من أصل شرعيتها ومروراً بأحداثها وما تمخضت عنه من نتائج.

 ولا يمكننا أن نغض النظر ونبتعد عن تاريخ أهل البيتعليهم السلام، فهو أيضاً قد أهمل الكثير منه بالرغم من ثبوت منزلتهم في الإسلام ودورهم في تثبيت أركانه واستمرار نهجه، وما ورد في حقهم من وجوب المودة و...

وهناك وقائع افقدها التشويه والتشويش والاضطراب صورتها الحقيقية، من قبيل بعض من سيرة النبي الأكرم صلي الله عليه وآله على سبيل المثال...

وقضية عثمان وفتنته وكيف انتهى به المطاف إلى مقتله بيد الثوار الذين تزعمهم ثلة من كبار أصحاب النبي صلي الله عليه وآله...

وعبد الله بن سبأ، واضطراب المؤرخين فيه وإصرار الوهابين على ربطه بالتشيع بالرغم من ظهور أمر التشيع وامتداده مع طول تاريخ الإسلام...

وهناك وقائع تم التلاعب فيها وقلبت وثبتت بشكل معكوس كحروب الردة ومسألة مالك بن نويرة، ووقائع أخرى اختلقت من دون أن يكون لها واقع خارجي كبطولات خالد بن الوليد، ودور القعقاع في الفتوحات الإسلامية...

كما أن هناك وقائع قد اختلف المؤرخون في نقلها حتى تباينت صورها مما أوجد تبايناً في النتائج المترتبة عليها والأحكام الصادرة وفقها، كمسألة الزهراء عليها السلام وخلافها مع الشيخين واستعمالهما العنف معها وغضبها منهما.

ولاشك كان ذلك النقص في التاريخ وليد عوامل عديدة ساهمت وشكلت بنيته الفعلية على ما هي عليه.

العوامل التي ساهمت في صياغات التاريخ الإسلامي بصورته الفعلية

1 ـ الاجتهادات

من الواضح لمن درس التاريخ الإسلامي، وتفحصه بإمعان وتحليل يجد أن كثيراً من وقائعه كانت نتاج العمل بالرأي والاجتهاد الشخصي.

ويمكن لنا أن نستدل على ذلك بسرد وقائع قد ساهمت تلك الاجتهادات فيها في رسم صورة تاريخية بهذه الكيفية الموجود بين أيدينا:

أ ـ منع النبي صلي الله عليه وآله من بيان بعض الحقائق وتثبيتها

إن من أهم العوامل التي ساهمت في تشكيل التاريخ الإسلامي الفعلي هو اجتهاد بعض الصحابة في حجب بيان بعض الحقائق التي أراد النبي  صلي الله عليه وآله أن يبينها في وقت مرضه وقبل وفاته، فقد أراد أن يكتب كتاباً يضمن للأمة من بعده صلي الله عليه وآله عدم الضلال والانحراف ([1])، حيث كان يحمل في طياته كثيراً من الأمور ـ لاسيما المتعلق منها بقيادة الأمة من بعده ـ التي كانت سترسم صورة لمستقبل الإسلام تغاير الصور التي حصلت بعد رحيله صلي الله عليه وآله. لكن بعض الصحابة حالوا دون ذلك، فاثر بذلك على مسير الإسلام بشكل كبير.

ب ـ إعدام وإتلاف النصوص

وهناك عامل آخر لا يقل أهمية عن العامل الأول في المساهمة بصياغة التاريخ الإسلامي الفعلي إلا وهو اجتهاد بعض الصحابة في إعدام وإتلاف النصوص من قبيل إتلاف المدونات التي كانت فيها كثير من أحاديث الرسول صلي الله عليه وآله ([2])، وكذا إحراق جميع مصاحف الصحابة في العصر الأول بالرغم من اشتمالها على التراث الغني وحقائق كثيرة من الوقائع وأسباب النزول ومعاني الآيات والسور مما كانت ستغير رسم التاريخ الإسلامي ([3]).

ج ـ منع التدوين

من العوامل الأخرى الأساسية المؤثرة في ولادة التاريخ الإسلامي بصورته الفعلية هو اجتهاد بعض الصحابة في المنع من تدوين الحديث النبوي ([4])، ولا شك أن التدوين لم يكن مقتصراً على الكلمات التي تخرج من الفم الطاهر للرسول صلي الله عليه وآله وإنما يشمل ترقيم ما يكتنفه من أحداث ووقائع وحالات نفسية ووصف لردود الفعل و...

د ـ منع التحديث وفرض القيود على المخبرين

لم يقتصر الأمر على منع التدوين بل سرى إلى سياسة منع التحديث وفرض القيود على المخبرين التي كانت هي الأخرى من العوامل الأساسية التي أثرت في أنتاج تاريخنا الإسلامي، فقد عاشت سنة النبي صلي الله عليه وآله بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى هذه المحنة الأليمة ما يناهز القرن من الزمن ([5])، وقد رفع الحظر عنها بعد أن انقرض عصر الصحابة وهذا الأمر يعني ورود جميع الاحتمالات من الوضع والدس والضياع وغير ذلك بلا رادع، وهذا المنع لم يكن مقتصراً على كلمات الرسول صلي الله عليه وآله، بل شمل كثير من الوقائع والحوادث وخصوصا المتعلق منها بأهل البيتعليهم السلام وبطولات أمير المؤمنينعليه السلام.

2 ـ سياسة الحكومات

من العناصر الرئيسية التي كان لها الأثر البارز في تدوين التاريخ الإسلامي بشكله الحاضر هي الحكومات المتعاقبة على الدولة الإسلامية، والذي يذكر في هذا الباب أن الدولة الأموية كان لها السبق في كتابة أولى المدونات في الحديث والتاريخ، ففي أيامها رفع الحظر عن الحديث، وفي ظلها خط التاريخ الإسلامي الأول، ولا يخفى ما كان لهذه الحكومة من توجهات وميول خاصة ـ وخصوصاً توجهها المناهض لآل البيتعليهم السلام، وممارستها سياسات ملتوية من قبيل الوضع والتدليس والترغيب والإرهاب الحكومي ـ تركت بصماتها على هذا التاريخ.

ثم أعقبتها الحكومة العباسية وازدواجيتها وسياسة اللعب على كل الخطوط من أجل البقاء في الحكم لأطول فترة ممكنة، فهي من جانب كانت تكن العداء الشديد لآل أمية كما هو شأن المتخاصمين على كرسي الحكم، ومن جانب آخر كانت تتظاهر بالسعي من اجل إرجاع حقوق آل البيتعليهم السلام حتى رفعت شعار الرضا من آل محمدعليهم السلام، مضافا إلى الجانب الواقعي وهو الوصول للحكومة والتحكم برقاب المسلمين.

وقد ألغى هذان النظامان وأتباعهما كل الأصول التاريخية التي لا تتوافق مع توجهاتهما، كما سخّرا الأقلام من اجل أن تتوافق مع مساراتهما.

 ومن هنا نجد التاريخ خلال هذه المرحلة قد اتسم بضعف أصوله التي أثرت سلبا على العصور اللاحقة، فازدحمت أوراقه بكيل التهم والأباطيل التي ترتضع من ثدي العصبية المقيتة، وأسهب في الحديث عن كل ما يمت بصلة للحكام حتى مجالس لهوهم ومجونهم، بينما اختصر في الأمور المهمة التي تمثل عزة المسلمين وسرّ قوتهم ورمز وحدتهم وغناء تراثهم، ومن المؤسف أن نشاهد بعض المؤرخين يتعاملون مع النصوص التاريخية لهاتين الحقبتين بحساسية مفرطة حتى عدوها من الأمور الواقعة التي لا ينبغي التشكيك فيها، فرفضوا إخضاعها لميزان النقد والمناقشة؛ لمعرفة حقيقة الحال فيها ودرجة مصداقيتها، ولذا لم يستطع هؤلاء ربط الأحداث ببعضها البعض بشكل موضوعي.

3 ـ العقائد والمتبنيات الفكرية

احتلت العقيدة والالتزام الفكري موضعا متميزا في التأثير على كتابة التاريخ الإسلامي، فكان المؤرخ في الغالب ينعطف معهما على حساب الحدث، ونذكر من تلك المتبنيات الفكرية على سبيل المثال مسألة الخلافة والنص...، وعدالة الصحابة والتفاضل بينهم، قال الذهبي: >وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفوا القلوب، وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء< ([6]).

وقال ابن حجر: >مع تاليف صدرت من بعض المحدثين كابن قتيبة مع جلالته القاضية بأنه كان ينبغي له أن لا يذكر تلك الظواهر، فإن أبى إلا أن يذكرها فليبين جريانها على قواعد أهل السنة< ([7]).

وقال الطبري: >وذكر هشام عن أبي مخنف قال وحدثني يزيد بن ظبيان الهمداني أن محمد ابن أبي بكر كتب إلى معاوية بن أبي سفيان لما ولى فذكر مكاتبات جرت بينهما كرهت ذكرها لما فيه مما لا يحتمل سماعها العامة< ([8])، وقال: >إن الواقدي ذكر في سبب مسير المصريين إلى عثمان ونزولهم ذا خشب أمورا كثيرة منها ما تقدم ذكره، ومنها ما أعرضت عن ذكره كراهية مني ذكره لبشاعته< ([9])، وقال: >قد ذكرنا كثيراً من الأسباب التي ذكر قاتلوه أنهم جعلوها ذريعة إلى قتله فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إلى الإعراض عنها< ([10]).

وقال ابن الأثير: >وقد قيل: إنّه جرى بين محمد بن أبي بكر ومعاوية مكاتبات كرهت ذكرها لما فيه مما لا يحتمل سماعها العامة< ([11])، وقال: >قد تركنا كثيراً من الأسباب التي جعلها الناس ذريعة إلى قتله لعلل دعت إلى ذلك< ([12]).

وقد عُمق هذا التأثير للمتبنيات الفكرية في التاريخ الإسلامي فأدى إلى ولادة الفرق والمذاهب.

حساسية وخطورة بعض وقائع التاريخ الإسلامي

إنّ كتابة التاريخ الإسلامي بصياغته الحالية قد أضفى كثيراً من الغموض على بعض الوقائع التاريخية المهمة خصوصاً مع خطورتها وحساسيتها؛ إذ أنّ هناك قضايا ذات حساسية شديدة لها تبعات على المسلمين من حيث اختلافاتهم المذهبية فتكون مدعاة لتعميق الخلاف...، وفي مقدمة تلك القضايا حادثة الاعتداء على الزهراء وهتك سترها..

ونحن لا نريد أن نحاكم المنتهكون وإنما نريد النظر في حقيقة الأمر كونه حادثة تاريخية، فان مقتضى النصوص التاريخية هو وقوع أصل الاعتداء والهتك لكن التفاصيل الدقيقة لهما لم تصل بشكل واضح.